أثر معرفة الأسماء والصفات في تحقيق الخوف**
ومنـزلة الخوف من العبودية عظيمة . وما ورد في فضيلته والحث عليه أكثر من أن يحصر في مثل هذا الموضع ، وإنما نلخص منـزلته ونجملها في نقطتين مهمتين:
أولا : أن الخوف من الله هو أحد ركائز العبودية الثلاثة التي لا تتم العبودية ولا تتحقق إلا بها ، فإن تحققت أثمرت أنواع من عبادات الظاهر والباطن . فهو دافع قوي للقيام بكثير من أنواع العبادة، وقد أثنى الله على أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بالخوف والرهبة منه I فقال
إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (.
ثانيا : الخوف من الله U شرط في الإيمان ولازم من لوازمه وموجباته ، قال U : ) فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (.فـ ( الخوف علامة صحة الإيمان وترحله من القلب علامة ترحل الإيمان منه ).
وهو من عبادات القلوب التي لا تكون إلا لله I ، وصرفها لغيره شرك أكبر. إذ أنه ( من تمام الاعتراف بملكه وسلطانه ، ونفاذ مشيئته في خلقه ) و( لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه).
فالمعرفة سبب رئيس في وجود الخوف في القلب كما سيظهر في المطلب التالي الذي يبين الأسباب الباعثة على الخوف .
الأسباب الباعثة على تحقيق الخوف
أولا : معرفة عظمة ذاته ، وجلالة أوصافه
الدالة على قهره وقدرته ومطلق إرادته يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد ، وكلما كان العبد به أعرف كانت هيبته والخوف منه في قلبه أعظم.
ثانيا : معرفة إحاطة علمه ورقابته Y
فلا يغيب عن علمه شيء من أحوال الظاهر وأحوال الباطن ، ولا يحول دونه زمان ولا مكان ، بل كل ذلك في علم الله سواء ؛ فهو يعلم ما يفعل العباد بجوارحهم ، وما ينطقون بألسنتهم ، وما تنطوي عليه دخيلة أنفسهم من نوايا ومشاعر ، يرقبهم بعينه التي لا تنام ، ويسمعهم بسمعه الذي وسع الأصوات ، لا يلهيه علم عن علم ، ولا يشغله سمع عن سمع سبحانه جل شأنه.
ثالثا : معرفة عدله وعذابه وشدة انتقامه من أعدائه
ومن مقتضيات هذه المعرفة معرفته بالدار الآخرة وما فيها من البعث والمحاسبة ، وما أعد الله فيها من النعيم ومن النكال . لأن من عرف ما أعده للمحسنين وما أعده للمجرمين لا ينفك عنه الخوف مطلقا إلا عندما ينادى بـ ) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون(فيدخل الجنة وينعم بالنظر إلى وجه ربه Y ، أما قبل ذلك فقد تضعف نفسه أمام شهواتها ، وقد يقلب الله قلبه على غير الطاعة ، لذا يخاف حصول المكروه من عذاب الله وناره ، أو فوات المحبوب من لقائه وجنته والنظر إلى وجهه الكريم . قال ابن القيم : ( من استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزاءها ، وذكر المعصية والتوعد عليها وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج في قلبه من الخوف مالا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو) ، ولن ينجو إلا إذا بشّر بالقبول من الرحمن I.
بعض الأسماء و الصفات الباعثة على تحقيق الخوف
ويمكن تمييزها إلى مجموعات ثلاث بحسب دلالتها على الأمور التي تبعث الخوف منه I في قلوب العباد :
أولا : بعض الأسماء والصفات الدالة على قدرته ومطلق إرادته I :
فالإرادة والقدرة من صفات ذاته I ويدل عليهما كثير من أسمائه الحسنى ومنها القوي ، المتين ،القادر والمقتدر والقدير ، القاهر والقهار ، وكذا اسمه العزيز I .
القوي والمتين
اسمان يدلان على أكمل القوة التي هي ليست لأحد إلا لله U فـ ( القوة تدل على القدرة التامة ، والمتانة تدل على شدة القوة ، والله I من حيث أنه بالغ القدرة تامها قوي ، ومن حيث أنه شديد القوة متين ).
القادر والمقتدر والقدير
ومعانيها ترجع إلى أنه I( الذي لا يرده شيء عن المراد ) فهو ذو القدرة I .
ومعنى القادر : ( الذي لا يعجزه شيء إيجادا أو إعداما أو تغييرا أو إعادة ) ، والمقتدر أكثر مبالغة ، ومعناه : ( التام القدرة الذي لا يمتنع عليه شيء ولا يحتجز عنه بمنعة وقوة ).
وفي هذه الأسماء دلالة على ( النفوذ والسلطان ، والتصرف التام في سائر الأكوان ، لا يعارضه منازع ، ولا يخرج عن قبضته مخالف أو طائع ) .
العزيز
ومعناه : ( المنيع الذي لا يغلب ) ، و (هو القادر القوي الذي لا يوصل إليه ) ، له عزة القوة ، وعزة المنعة وعزة الغلبة والقهر.
فهو رب العزة يعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو ( العزيز الذي ذل لعزته كل عزيز ).
ومن معاني عزته ( العزة : بمعنى الامتناع على من يرومه من أعدائه فلن يصل إليه كيدهم ولن يبلغ أحد منهم ضره وأذاه ) فهو لا يذل ولا يضام I .
القهار والقاهر
والقهار بمعنى : القاهر مع مبالغة ، ومعناه : الذي قهر خلقه بقدرته عليهم ، و( هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة وقهر الخلق كلهم بالموت ).
فهو قهار لأهل السموات والأرض : أما لأهل السماء فبالتسخير ، وأما لأهل الأرض فبالتعبد والتذليل ، الذي يقصم ظهور الجبابرة ، ويذل رقاب الأكاسرة ، ويقطع الآمال بالحافرة.
الجبار
فـالجبار هو : (هو الذي ينفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل واحد ، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد ، الذي لا يخرج أحد من قبضته ، وتقصر الأيدي دون حمى حضرته ). وكذلك الجبار هو : الـ(عال على خلقه بصفاته العالية ، وآياته القاهرة ، فهو المستحق للعلو والجبروت).
وجبروته I مقرون بحكمة فهو( يجبر الناس أي يقهرهم على ما يريده حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية ) ، وكذا مقرون بعدل ورحمة فبجبروته قهر الجبابرة ، وأذل الأكاسرة ، وأنصف المظلومين من الظلمة ، ونصر جنده على المعاندين والكافرين الفجرة.
ثانيا : بعض الأسماء والصفات الدالة على سعة علمه ورقابته I :
العلم من صفات ذاته I ، فله من العلم أكمله وأعظمه ويدل على هذه الصفة كثير من أسمائه وصفاته ومنها : العليم الخبير الرقيب الحسيب الشهيد السميع البصير
العليم والعالم
و هي من أسماء الله U الدالة على اتصافه بالعلم وصيغها دالة على المبالغة في العلم بدقائق الأمور، ووصفه بكمال العلم .فـ( هو العليم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق ) ، والعلم ( معناه ظاهر وكماله أن يحيط بكل شيء علما ظاهره وباطنه ، دقيقه وجليله ، أوله وآخره ، عاقبته وفاتحته وهذا من حيث كثرة المعلومات وهي لا نهاية لها ، ثم يكون العلم في ذاته أكمل ما عليه وأتم ) فهو الذي) أحاط بكل شيء علما( ،) وأحصى كل شيء عددا (.
الخبير
واسم الخبير لله U دال كذلك على علمه المحيط ولكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة ؛ فمعناه : ( العالم بكنه الشيء . المطلع على حقيقته ) ، فـ( هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ، ولا يجري في الملك والملكوت شيء ولا يتحرك ذرة ولا يسكن ، ولا يضطرب نفس ولا يطمئن ، إلا ويكون عنده خبره ) I فهو ( العالم بدقائق الأشياء على ما هي عليه وهو العليم بذات الصدور ) .
السميع و البصير
فالسميع ( هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي فيسمع السر والنجوى بل ما هو أدق من ذلك وأخفى ) ( سواء عنده الجهر والخفوت والنطق والسكوت ).
والبصير : هو المبصر ، العالم بخفيات الأمور. وهو ( الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى ) .
وكثيرا ما يقترن هذان الاسمان في التنـزيل وفي اقترانهما زيادة دلالة على كمال العلم وإحاطته فهو I يسمع بسمع ، ويبصر ببصر، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
الرقيب والشهيد و الحفيظ
ومعنى : ( الحافظ الذي لا يغيب عما يحفظه ).
وكذا معناه ( المطلع على ما أكنته الصدور ، القائم على كل نفس بما كسبت ) ، فهو ( العليم فمن راعى الشيء حتى لم يغفل عنه ولا حظه ملاحظة دائمة ، ولازمه لزوما لو عرفه الممنوع عنه لما أقدم عليه سمي رقيبا ). فالله Y( رقيب على الأشياء بعلمه المقدس عن مباشرة النسيان ، ورقيب للمبصرات ببصره الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، ورقيب للمسموعات بسمعه المدرك لكل حركة وكلام ، فهو سبحانه رقيب عليها بهذه الصفات ، تحت رقابته الكليات والجزئيات وجميع الخفيات في الأرضين والسموات)
و يرجع معناه إلى العلم مع خصوص وإضافة ، فإنه تعالى عالم الغيب والشهادة ، وإذا أضيف العلم إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد ، ويستوي عنده U الغيب والشهادة فهو شهيد كذلك على الأمور الباطنة ، وعلى هذا فمعناه : ( الذي لا يغيب عنه شيء ) ، ( المطلع على جميع الأشياء . سمع جميع الأصوات خفيها وجليلها ،وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها ، صغيرها وكبيرها ، وأحاط علمه بكل شيء )
ثالثا : بعض الأسماء والصفات الدالة على عدله وشدة عذابه وانتقامه :
ومنها أسماء مفردة كالحكم ، ومنها أسماء مضافة كـذو انتقام:
الحكم
من أسمائه الحسنى الدالة على عدله فـ(هو الذي إليه الحكم ) ، ومعناه : (الذي سلم له الحكم ، ورد إليه فيه الأمر ) ، فهو ( من له تنفيذ القضايا وإمضاء الأوامر والنواهي ) ، ( لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه . ومن حكمه في حق العباد أن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، وأن الأبرار لفي نعيم ، وأن الفجار لفي جحيم ). قال تعالى : ) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (.
فالله I يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة بعدله وقسطه فلا يظلم مثقال ذرة ، ولا يحمل أحد وزر أحد ، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه ، وينـزل بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا والآخرة .
ومن آثار حكمه شرائعه التي يصلح بها أمر الدنيا والآخرة ، والتي يحاسب العباد عليها يوم القامة عملا وتركا ؛ فيحكم للطائعين بالجنة عدلا ورحمة ، ويحكم للكافرين بالنار عدلا وانتقاما .
ومن أسماء فعله : ذو انتقام
و النقمة العقوبة على أمر يكرهه مع سخط منه له، فيتضمن هذا الاسم صفة الغضب.
والمعنى أنه I( هو الذي يبالغ في العقوبة لمن يشاء ) على قدر استحقاقهم بما كفروا وكذبوا، وأنه ( يقصم ظهور العتاة وينكل بالجناة ويشدد العقاب على الطغاة ، وذلك بعد الإعذار والإنذار ، وبعد التمكين والإمهال ) ، قال تعالى : ) وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا(.
وهكذا فتأمل هذه الأسماء وما تدل عليه من الصفات بالتطابق والتضمن والالتزام يعرّف العبد بإله حق ، عزيز مقتدر ، عليم ، متعال ؛ فينبعث في قلبه الخوف منه ، وتخضع جوارحه طاعة لجنابه ( وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية ) لأنه يعلم من نفسه قصورها وضعفها ، ويعرف لمولاه قوته وعلمه وانتقامه فيخاف أن تغلب عليه شقوته فيقع فيما يحذر أو يفوت عليه ما يرجو .
وعلى هذا فالخوف من محركات القلوب إلى الله U ، ومن ركائز العبودية ؛ إذ هو دافع عظيم لأداء كثير من أنواع العبادة التي على القلب واللسان والجوارح.
.