أحداث الحديبية:
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأداء العمرة في يوم الاثنين هلال ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تعرض له قريش بحرب أو يصدوه عن البيت الحرام ، لذلك استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، فأبطؤوا عليه ، فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار وبمن لحق به من العرب.
وقد كشف القرآن عن حقيقة نوايا الأعراب، فقال: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا. يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أردا بكم نفعاً ، بل كان الله بما تعملون خبيراً. بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا).
وقد ذكر مجاهد أن الأعراب الذي عنتهم الآية هم أعراب جهينة ومزينة ، وذكر الواقدي أن الأعراب الذي تشاغلوا بأموالهم وأولادهم وذراريهم هو بنو بكر ومزينة وجهينة.
ويفهم من رواية البخاري أن المسلمين كانوا يحملون أسلحتهم استعداد للدفاع عن أنفسهم في حالة الاعتداء عليهم.
لقد اتفق خمسة من الذين كانوا في هذه الغزوة على أن عدد من خرج فيها كانوا ألفا وأربعمائة رجل.
ولقد صلى المسلمون وأحرموا بالعمرة عندما وصلوا إلى ذي الحليفة ، وقلد الرسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وعددها سبعون بدنة. وبعث بين يديه بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي عينا له إلى قريش ليأتيه بخبرهم.
وعندما وصل المسلمون الروحاء جاءه نبأ عدو بضيقة ، فأرسل إليهم طائفة من أصحابه ، فيهم أبو قتادة الأنصاري ، ولم يكن محرماً ، فرأى حماراً وحشياً ، فحمل عليه فطعنه ، ورفض أصحابه أن يعينوه عليه ، ولكنهم أكلوا منه وهم حرم ، ثم شكوا في حل ذلك ، فعندما التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في السقيا ، استفتوه في الأمر ، فأذن لأصحابه بأكل ما جاؤوه به من بقية اللحم ما داموا لم يعينوا على صيده.
وعندما وصلوا عسفان جاءهم بسر بن سفيان الكعبي بخبر قريش فقال: ( يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموا كراع الغميم). فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أن يغيروا على ديار الذين ناصروا قريشاً واجتمعوا معها ليدعوا قريشاً ويعودوا للدفاع عن ديارهم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( يا رسول الله ، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( امضوا على اسم الله).
وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب خيل المشركين منهم صلى بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.
ولتفادي الاشتباك مع المشركين ، سلك الرسول صلى الله عليه وسلم طريقاً وعرة عبر ثنية المرار ، وهي مهبط الحديبية ، وقال عندما وصلها : (من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل) ، فكان أول من صعدها خيل بني الخزرج ، ثم تتام الناس.
وعندما أحس بتغيير المسلمين خط سيرهم رجع إلى مكة ، وخرجت قريش للقاء المسلمين ، فعسكرت ببلدح ، وسبقوا المسلمين إلى الماء هنا.
وعندما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية بركت ناقته القصواء ، فقال الصحابة رضي الله عنهم : (خلأت القصواء) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل). ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، ثم عدل عن دخول مكة وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد – بئر – قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فجاش لهم بالري فارتووا جميعاً ، وفي رواية أنه جلس على شقة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر. ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معا وقعاً ، كما ذكر ابن حجر. ويؤيده ما ذكره الواقدي وعروة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو وصبه في البئر ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت.
ولخصائص قريش ومكانتها بين العرب ، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إسلامهم ، وتحسر على عنادهم وخسارة أرواحها في الحروب مع المسلمين ، فها هو يعبر عن هذه الحسرة بقوله : ( يا ويح قريش ، أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهو وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة …).
بذل الرسول صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حرباً معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وهو حق المسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرف على قوة المسلمين ومدة عزمهم على القتال إذا ألجئوا إليه، وطمعاً في صد المسلمين عن البيت بالطرق السليمة من جهة ثالثة.
فأتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، وبينوا أن قريشاً تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مجيئه وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش، وقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله ولا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تتحدث بذلك العرب.
وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤكد هدفه من هذه الزيارة ويشهد على ذلك كل العرب،لذا أرسل إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي على جمله( الثعلب) ولكنهم عقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، لأنهم من قومه.
ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال عمر : (يا رسول الله ، إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان).
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إليهم. فنزل عثمان في حماية وجوار أبان بن سعيد بن العاص الأموي حتى أدى رسالته ، وأذنوا له بالطواف بالبيت ، فقال : (ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم) واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت شجر سمرة ، فبايعوه جميعاً على الموت ، سوى الجد بن قيس ، وذلك لنفاقه.و في رواية أن البيعة كانت على الصبر ، وفي رواية على عدم الفرار ، ولا تعارض في ذلك لأن المبايعة على الموت تعنى الصبر عند اللقاء وعدم الفرار.
وكان أول من بايعه على ذلك أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي ، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته ، فأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أنتم خير أهل الأرض) ، وقال : ( لا يدخل النار إن شاء الله ، من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها).
وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يده اليمنى ، وقال (هذه يد عثمان) ، فضرب بها على يده اليسرى ، وقال : (هذه لعثمان). فنال عثمان بذلك فضل البيعة.
وقبل أن تتطور الأمور عاد عثمان رضي الله عنه بعد البيعة مباشرة.
وعرفت هذه البيعة بـ (بيعة الرضوان) ، لأن الله تعالى أخبر بأنه رضي عن أصحابها ، في قوله : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
أرسلت قريش عدداً من السفراء للتفاوض مع المسلمين ، بعد سفارة بديل بن ورقاء. فقد أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي ، وقبل أن يتحرك خشي أن يناله من التعنيف وسوء المقالة ما نال من سبقه ، فبين لهم موقفه منهم ، وأقروا له بأنه غير متهم عندهم ، وذكر لهم أن الذي عرضه عليهم محمد هو خطة رشد. ودعاهم إلى قبولها، فوافقوا على رأيه.
وعندما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له ما قال لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لا أرى وجوهاً وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ … وكان كلما تكلم كلمة أخذ بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس البني صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، فيضربه بنعل السيف ويقول : أخّر عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم … ولحظ عروة تعظيم الصحابة للرسول صلى الله عليه سلم وحبهم له وتفانيهم في طاعته ، فلما رجع إلى قريش ، قال لهم : (أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً).
ثم بعثوا الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه) ، فلما رأى الحليس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك إعظاماً لما رأى ، وقال لقريش : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت ، فقالوا : اجلس ، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فغضب وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له !! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قالوا : مه ، كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هذا مكرز وهو رجل فاجر) … فجعل يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو رسولاً من قبل قريش ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم متفائلاً : ( لقد سهل لكم أمركم). وقال : ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل) ، وكانت قريش قد قالت لسهيل بن عمرو : ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.
وعندما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إملاء شروط الصلح على علي بن أبي طالب ، كاتب الصحيفة ، اعترض سهيل على كتابة كلمة (الرحمن) في البسملة ، وأراد بدلاً عنها أن يكتب (باسمك اللهم) ، لأنها عبارة الجاهليين ، ورفض المسلمون ذلك ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وافق على اعتراض سهيل. ثم اعترض سهيل على عبارة (محمد رسول الله) ، وأراد بدلاً عنها عبارة : ( محمد بن عبد الله) ، فوافقه أيضاً على هذا الاعتراض.
وعندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) اعترض سهيل قائلاً : لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة قهراً ولكن ذلك في العام المقبل ، فنخرج عنك فتدخلها بأصحابك فأقمت فيها ثلاثاً معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب . فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط .
ثم قال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد) ، فقال سهيل : والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.
وألح الرسول صلى الله عليه وسلم على سهيل أن يستثني أبا جندل ، فرفض على الرغم من موافقة مكرز على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بداً من إمضاء ذلك لسهيل.