فالنصر من عنده -جل وعلا-، ولكنه سبحانه جعل المدد بالملائكة، وما يعطي من السلاح والمال وكثرة الجند كل ذلك من أسباب النصر والتبشير والطمأنينة، وليس النصر معلقًا بذلك.
قال سبحانه: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249].
وكانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر، والسلاح قليل والمركوب قليل، والمشهور أن الإبل كانت سبعين، وكانوا يتعاقبونها، وكان السلاح قليلاً وليس معهم من الخيل في المشهور سوى فرسين، وكان الجيش الكفار حوالي الألف وعندهم القوة العظيمة، والسلاح الكثير.
ولما أراد الله هزيمتهم هزمهم ولم تنفعهم قوتهم ولا جنودهم، وهزم الله الألف وما عندهم من القوة العظيمة بالثلثمائة وبضعة عشر وما عندهم من القوة الضعيفة، ولكن بتيسير الله ونصره وتأييده غلبوا ونصروا، وأسروا من الكفار سبعين، وقتلوا سبعين، وهزم الباقون لا يلوي أحد على أحد، وكل ذلك من آيات الله ونصره.
وفي يوم الأحزاب غزا الكفار المدينة بعشرة آلاف مقاتل من أصناف العرب من قريش وغيرهم وحاصروا المدينة واتخذ النبي ج الخندق، وذلك من أسباب النصر الحسي، ومكثوا مدة وهم يحاصرون المدينة، ثم أزالهم بغير قتال.
فأنزل في قلوبهم الرعب وسلط عليهم الريح وجنودا من عنده حتى لم يقر لهم قرار وانصرفوا خائبين إلى بلادهم.
وكل هذا من نصره وتأييده سبحانه وتعالى، ثم خذلوا فلم يغزوا النبي ج بالمدينة، بل غزاهم هو يوم الحديبية، وجرى الصلح المعروف، ثم غزاهم في السنة الثامنة في رمضان وفتح الله عليه مكة، ثم دخل الناس أفواجا في دين الله بعد ذلك.
فالمقصود: أن النصر بيد الله سبحانه وتعالي، وهو النصر لعباده، ولكنه سبحانه أمر بالأسباب، وأعظم الأسباب: طاعة الله ورسوله ج.
ومن طاعة الله ورسوله: التعلم والتفقه في الدين حتى تعرف حكم الله وشريعته لنفسك، وفي نفسك، وفي غيرك، وفي جهاد عدوك، وحتى تعد العدة لعدوك، وحتى تكف عن محارم الله، وحتى تؤدي فرائض الله، وحتى تقف عند حدود الله، وحتى تتعاون مع إخوانك المسلمين.
وحتى تقدم الغالي والنفيس من نفسك ومالك في سبيل وفي سبيل نصر دين الله وإعلاء كلمته لا في سبيل الوطن الفلاني ولا القومية الفلانية.
فهذا هو الطريق وهذا هو السبيل للنصر على الأعداء: بالتعليم الشرعي، والتفقه في دين الله من الولاة والرعايا والكبير والصغير، ثم العمل بمقتضى ذلك وترك ما نحن عليه مما حرم الله.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11].
فمن أراد من الله النصر والتأييد وإعلاء الكلمة فعليه بتغير ما هو عليه من المعاصي والسيئات المخالفة لأمر الله، وربك يقول -جلَّ وعلا-: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:55].
ما قال الله: وعد الله الذين ينتسبون إلى قريش، أو العرب، أو الذين يبنون القصور ويستخرجون البترول... إلخ، بل علق الحكم بالإيمان الصادق والعمل الصالح سواء كانوا عربًا أو عجمًا، هذه هي أسباب النصر والاستخلاف في الأرض، لا العروبة ولا غير العروبة، ولكنه إيمان صادق بالله ورسوله وعمل صالح.
هذا هو السبب، وهذا هو الشرط، وهذا هو المحور الذي عليه المدار، فمن استقام عليه فله التمكين والاستخلاف في الأرض، والنصر على الأعداء.
ومن تخلف عن ذلك؛ لم يضمن له النصر، ولا السلامة، ولا العز، بل قد ينصر كافر على كافر، وقد ينصر مجرم على مجرم، وقد يعان منافق على منافق.
ولكن النصر المضمون الذي وعد الله به عباده المؤمنين لهم على عدوهم إنما يحصل بالشروط التي بينها سبحانه، وبالصفات التي أوضحها -جل وعلا-، وهو الإيمان الصادق والعمل الصالح.
ومن ذلك: نصر دين الله، قال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [الحج: 40-41].
هذا هو نصر دين الله، فمن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فقد نصر دين الله؛ لأن من ضمن ذلك أداء فرائض الله وترك محارم الله.
وقال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾.
وقال سبحانه: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104].
فأهل الفلاح والنصر والعاقبة الحميدة، هم الذين عملوا الصالحات، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، ونصروا الله .
وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
فالدواء واضح والعلاج بين، لكن أين من يريد الدواء؟ وأين من يريد العلاج؟ وأين من يستعمله؟
هذا واجب ولاة الأمور والعلماء والأعيان في كل مكان وفي جميع الدول الإسلامية إذا كانوا صادقين في الدعوة إلى الإسلام.
وذلك بـ: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحفاظ على ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتفقه في الدين، وإصلاح المناهج في المدارس في جميع المراحل.
والتعاون أيضًا في التكاتف ضد الأعداء والاتحاد، مع الإخلاص لله في العمل والصدق فيه ونية الآخرة.
وبذلك يستحقون النصر من الله والتأييد منه سبحانه كما كان الأمر كذلك عند سلفنا الصالح مما لا يخفى على أهل العلم.
وبالأمس القريب الإمام المجدد لمعالم الإسلام في القرن الثاني عشر لما رأى ما رأى من الجهل العظيم، وتعطيل أحكام الشريعة وكثرة الجهل في الجزيرة وغيرها، وقلة الدعاة إلى الله ، وانقسام أهل الجزيرة إلى دويلات صغيرة، على غير تهدى وعلى غير علم رأى أن من الواجب عليه أن يقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن ينبههم إلى ما وقعوا فيه من الخطر، وأن يسعى على جمع كلمتهم على الحق وعلى رئيس واحد يقيم فيهم أمر الله ويجاهدون في سبيل الله.
فجد / في ذلك ودعا إلى الله واتصل بالأمراء، وكتب الرسائل في أمر التوحيد وتحكيم شريعة الله وترك الشرك به، ولم يزل صابرًا على ذلك محتسبًا بعدما درس وتفقه في الدين على مشايخ البلاد وغيرهم.
ثم جد في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وجمع الكلمة في حريملاء أولا، ثم في العيينة ثم انتقل -بعد أمور وشئون- إلى الدرعية.
وبايعه محمد بن سعود / على الجهاد في سبيل الله، وإقامة أمر الله، فصدقوا جميعا في ذلك، وتكاتفوا في ذلك، وجاهدوا على ضعفهم حتى نصرهم الله وأيدهم، وأعلنوا التوحيد، ودعوا الناس إلى الحق والهدى، وحكموا شريعة الله في عباده.
وبسبب الصدق والاستعانة بالله وحسن المقصد أيدهم الله وأعانهم، وأخبارهم لا تخفى على كثير ممن له أدنى بصيرة.
ثم جاء بعد ما جرى من الفتور والانقسام، جاء الملك عبد العزيز / وجد في هذا الأمر وحرص فيه، واستعان بالله سبحانه ثم بأهل العلم والإيمان والبصيرة، وأعانه الله وأيده، وجمع له كلمة المسلمين في هذه الجزيرة على كلمة واحدة، وعلى تحكيم شريعة الله، وعلى الجهاد في سبيل الله حتى استقام أمره وتوحدت هذه الجزيرة من شمالها إلى جنوبها وشرقها وغربها على الحق والهدى بأسباب الصدق والجهاد وإعلاء كلمة الله تعالى.
فالمقصود: أن الأمثلة كثيرة في ذلك.
وهكذا صلاح الدين الأيوبي قصته معروفة ومحمود زنكي كذلك.
فالمقصود: أن سلفنا الصالح الأوائل لما صدقوا في جهادهم في وقت نبيهم وبعده – أعزهم الله وأعلى شأنهم واستولوا على المملكتين العظيمتين – مملكة الأكاسرة ومملكة الروم في الشام وما حولها – ثم من بعدهم ممن صدق فِي دين الله نصرهم الله لما عندهم من الصدق والتكاتف في إعلاء كلمة الله.
ثم في أوقات متعددة متغايرة يأتي أناس لهم من الصدق والإخلاص مالهم، فيؤيدون وينصرون على عدوهم على قدر إخلاصهم واجتهادهم وبذلهم.
والذي نصر الأولين ونصر الآخرين سبحانه وتعالى هو الله ، وهو ناصر من نصره، وخاذل من خذله.
كما قال الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر:36].
وقال سبحانه: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران:120].
وقال : ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249].
ولكن المصيبة في أنفسنا كما قال : ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30].
فالمصيبة جاءت من ضعف المسلمين وتكاسلهم وجهلهم، وإيثارهم العاجلة، وحبهم الدنيا، وكراهة الموت، وتخلفهم عما أوجب الله وترك الصلوات، وإتباع الشهوات وإيثار العاجلة، والعكوف على المحارم والأغاني الخليعة، والفساد للقلوب والأخلاق...إلخ.
فمن هذا وأشباهه سلط الله على المسلمين عدوهم كما قال -جل وعلا-: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء:16].
نساله الله أن يمن علينا وعلى جميع المسلمين وولاة أمرهم بالتوبة إليه والاستقامة على أمره، والتعاون على البر والتقوى، وعلى إعداد العدة لأعدائنا، والتفقه في الدين، والصبر على مراضيه، والبعد عن مساخطه سبحانه.
كما نسأل سبحانه أن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، ومن أسباب النقم، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل أعداءه، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يصلح ولاة أمرهم، وأن يرزقهم البصيرة، إنه سميع قريب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[مجموع الفتاوى (5/101) للشيخ عبد العزيز بن باز]
* * * *