من صلّى ثم دخل مسجداً صلّى معهم
من آداب دخول المساجد أن من دخل مسجداً فوجدهم يصلون وهو قد صلّى، فإنه يشرع له أن يصلي معهم، إدراكاً لفضل الجماعة، سواء كان الوقت وقت نهي أم لا، وتكون له نافلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتك الصلاة معهم فصلّ، ولا تقل: إني قد صليت فلا أصلي".
قال النووي: (وفي هذا الحديث: أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر والمغرب كباقي الصلوات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بإعادة الصلاة ولم يفرق بين صلاة وصلاة، وهذا هو الصحيح في مذهبنا، ولنا وجه أنه لا يعيد الصبح والعصر؛ لأن الثانية نفل، ولا تنفل بعدهما، ووجه أنه لا يعيد المغرب؛ لئلا تصير شفعاً، وهو ضعيف) وقال في بداية المجتهد: (والتمسك بالعموم أقوى).
وعن يزيد بن الأسود العامري قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته إذ هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، قال: "عليّ بهما"، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟"، قالا: يا رسول الله! إنا قد صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم؛ فإنهما لكما نافلة".
قال الترمذي: (وهو قول غير واحد من أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: إذا صلى الرجل وحده ثم أدرك الجماعة فإنه يعيد الصلوات كلها في الجمعة، وإذا صلى المغرب وحده ثم أدرك الجماعة قالوا: فإنه يصليها معهم ويشفع بركعة، والتي صلى وحده هي المكتوبة عندهم).
قال السندي: (وقوله: "فصليا معهم": هذا تصريح في عموم الحكم في أوقات الكراهة أيضاً، ورافع عن تخصيص الحكم بغير أوقات الكراهة؛ لاتفاقهم على أنه لا يصح استثناء المورد من العموم، والمورد صلاة الفجر). أهـ.
وقال في عون المعبود: (وظاهر الحديث حجة على من منع عن شيء من الصلوات كلها، ألا تراه عليه الصلاة والسلام يقول: "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصلّ فليصل معه"؟ ولم يستثن صلاة دون صلاة).
وقد أفتى بمقتضى ذلك إمام السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله – قال أبو داود: سمعت أحمد قال له رجل: إذا دخلت المسجد وقد صليت العصر وأقيمت الصلاة؟ قال: صلّ معهم، قيل: والظهر؟ قال: والصلوات كلها، قال أبو داود لأحمد: والمغرب إذا صليتها أضيف إليها ركعة؟ قال: نعم ..
وهذه الإعادة سببها حضور الجماعة، ولا فرق بين أن يصلي الأولى وحده أو يصلي مع جماعة، ولا فرق – أيضاً – في إعادتها مع الجماعة بين ما إذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد، أو دخل المسجد وهم يصلون؛ لعموم الأدلة، ولئلا يكون قعود والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به، والوقوع في عرضه وأنه ليس من المصلين.
وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث يزيد: "إذا أتيتما مسجد جماعة" أن ذلك مختص بالجماعة التي تقام في المسجد، لا التي قد تقام في غيره، فمن حضر جماعة يصلون في منـزل لعذر وكان هو قد صلّى لم يصلّ معهم، فيحمل المطلق الوارد في بعض روايات الحديث على هذا المقيد، والله أعلم.
قال في المغني: (إذا أعاد المغرب شفعها برابعة، نص عليه أحمد؛ لأن هذه الصلاة نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر غيرا لوتر، فكان زيادة ركعة أولى من نقصانها؛ لئلا يفارق إمامه قبل إتمام صلاته). أهـ.
وفي هذه المفارقة مخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم : "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"
قال ابن أبي شيبة في مصنفه: (باب من قال: إذا أعدت المغرب فاشفع بركعة)، وذكر آثاراً عن السلف، منها: عن علي – رضي الله عنه – قال: يشفع بركعة. يعني: إذا أعاد المغرب.
ولو قال قائل: إنه يصلي معهم المغرب، ولا يلزم أن يزيد عليها ركعة؛ لعموم الأدلة في هذه المسألة؛ لما كان ذلك بعيداً، لكنه مبني على صحة التطوع بوتر، والله أعلم.
اختلاف نية الإمام والمأموم
من أحكام دخول المسجد التي ينبغي العلم بها أنه لا يشترط اتحاد نية الإمام والمأموم، وأن اختلاف نية الإمام عن المأموم لا يمنع صحة الاقتداء، فالمفترض يأتم بالمتنفل، والمتنفل يأتم بالمفترض، والمفترض يقتدي بمفترض آخر
فهذه ثلاث حالات:
فالأولى: كما لو دخل إنسان المسجد، والإمام يصلي التراويح، فله أن يصلي العشاء خلفه ركعتين، ثم يقوم فيتم ركعتين، وهذا قول الإمام الشافعي وأصحابه، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، رحم الله الجميع، وذلك لما ورد عن جابر – رضي الله عنه -: أن معاذاً – رضي الله عنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة".
كما يدل على ذلك – أيضاً – أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلّى بالطائفة الثانية صلاة الخوف، وهي له نافلة، فإنه صلى بطائفة وسلم، ثم صلى بطائفة أخرى وسلم.
وأما حدث "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"، فلا دليل فيه على عدم الجواز؛ لأنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسّره بذلك، كما في تمام الحديث، وعلى تقدير أنه عام في اختلاف النيات والأفعال الظاهرة، فهو مخصوص بمثل حديث جابر المذكور، ولا تعارض بين العام والخاص.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (والذين منعا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة، فإنهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النـزاع، كقوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"، وبأن "الإمام ضامن"، فلا تكون صلاته أنقص من صلاة المأموم، وليس في هذين الحديثين ما يدفع تلك الحجج، والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال كما جاء مفسراً . . .).
وقال – أيضاً -: (فقد ثبت صلاة المتنفل خلف المفترض في عدة أحاديث، وثبت أيضاً بالعكس، فعلم أن موافقة الإمام في نية الفرض أو التنفل ليست بواجبة، والإمام ضامن وإن كان متنفلاً).
وقال السندي على حديث صلاة الخوف المتقدم: (ولا يخفى أنه يلزم فيه اقتداء المفترض بالمتنفل قطعاً، ولم أر لهم جواباً شافياً).
وأما الصورة الثانية: وهي متنفل يقتدي بمفترض، فكما لو دخل إنسان المسجد فوجدهم يصلون، وقد كان صلى تلك الصلاة، فإنه يصلي معهم وتكون له نافلة. وتقدم بحث هذه المسألة.
وأما الصورة الثالثة: وهي مفترض يقتدي بمفترض آخر، فكما لو دخل إنسان لم يصل الظهر والإمام يصلي العصر، فإنه يصلي وراء إمامه بنية الظهر، ثم بعد فراغه يصلي العصر، لوجوب الترتيب، ولا يسقط خشية فوات الجماعة.
وكذا يجوز أن يصلي الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء خلف من يصلي الفجر، وشرط ذلك: ألا تكون إحدى الصلاتين تخالف الأخرى في الأفعال الظاهرة؛ لحديث "فلا تختلفوا عليه"، فلا يصلي الظهر خلف من يصلي الكسوف – مثلاً –.
وهذا قول الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لقصة معاذ – رضي الله عنه، حيث دل الحديث على أن اختلاف النية بين الإمام والمأموم لا يؤثر، فكذلك هنا، اختلاف نية الفريضة من فريضة إلى أخرى لا يؤثر، ومن منع ذلك استدل بما تقدم، والجواب كما سلف، والله أعلم.
إذا صلى المسافر خلف المقيم أتم
إذا دخل المسجد رجل مسافر، والناس يصلون صلى معهم، ولزمه الإتمام ومتابعة الإمام؛ وذلك لما ورد عن موسى بن سلمة قال: كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعاً، وإذا رجعنا على رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم.
وعنه – أيضاً – قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم .
وعن الشعبي: أن ابن عمر – رضي الله عنهما – كان إذا صلى بمكة يصلي ركعتين، إلا أن يجمعه إمام فيصلي بصلاته.
وعن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يصلي وراء الغمام بمنى أربعاً، فإذا صلّى لنفسه صلّى ركعتين.
فهذه النصوص تفيد أن المسافر إذا صلى خلف مقيم لزمه الإتمام؛ لوجوب متابعة الإمام وترك الخلاف له وإن اعتقد المأموم أن القصر أفضل، لأن فضيلة الجماعة آكد، يؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه".
لكن إذا دخل المسافر المسجد وقد صلّى الإمام ركعتين من الظهر – مثلاً – فهل تجزئه الركعتان الباقيتان باعتبار أنها صلاته لو كان منفرداً أم يلزمه الإتمام؟
الجواب: يلزمه الإتمام؛ لما ورد عن أبي جلز – واسمه: لاحق بن حميد – قال: قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم – يعني: المقيمين – أتجزئه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك، وقال: يصلي بصلاتهم.
وعلى هذا فإذا أدرك المسافر مع المقيم ركعة فأكثر أتم الصلاة؛ لأنه أدرك الجماعة، واقتدى بمقيم في جزء من صلاته، فلزمه الإتمام.
أما لو صلى مسافر خلف إمام يصلي التراويح فهل تجزئه الركعتان؟ هذا مبين على مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل.
والأظهر الجواز، لدخوله في عموم "إنما جعل الإمام ليؤتم به فال تختلفوا عليه"، وهذا صلى ركعتين كإمامه، فلم يختلف عليه، وأما الاختلاف المنهي عنه فهو الاختلاف في الأفعال الظاهرة، بدليل تفسيره صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالأفعال الظاهرة، كما في بقية الحديث، والله اعلم.
لكن إذا أدرك المسافر أقل من ركعة كأن يدرك إمامه في التشهد فهل يتم أو يقصر؟ هذا مبني على الخلاف فيما تدرك به الجماعة؛ فمن قال: تدرك بركعة، قال: له أن يقصر؛ لأن الجماعة فاتته، فهو كمن صلى منفرداً. نص على ذلك الإمام أحمد – رحمه الله -، وبه قال مالك وجماعة من السلف: أن من أدرك أقل من ركعة فإنه يقصر، ومن قال: تدرك الجماعة بإدراك التشهد قال: يتم هذا المسافر صلاته؛ لأنه أدرك الجماعة.
والقول بأن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة هو المختار في هذه المسألة، - كما تقدم – وذلك لأن المأموم لم يدرك مع الإمام شيئاً يحتسب له به؛ لأن ما دون الركعة لا يعتد به في الصلاة، لكونه يستقبل جميع صلاته منفرداً، والله أعلم.